فن

مسار تيريزا الأزرق: رحلة عجوز في الأمازون

من برلين، مراجعة للفيلم الفائز بالدب الفضي لجائزة لجنة التحكيم الكبرى بمهرجان برلين السينمائي الدولي.

future مشهد من فيلم «المسار الأزرق» الفائز بالدب الفضي لجائزة لجنة التحكيم الكبرى بمهرجان برلين السينمائي

صباح اليوم الثالث من أيام حضوري لمهرجان برلين، وبينما أخطو على الجليد الذي غطى شوارع العاصمة الألمانية، فكرت وأنا أشعر بتثاقل آت من قلة وقت النوم مع برودة شديدة في الجو قائلًا لنفسي: «هل يكون ذلك الفيلم جيدًا أم أن النوم كان فكرة أفضل؟»، جاءتني تلك الفكرة وأنا أتذكر أن الفيلمين السابقين المعروضين ضمن عروض التاسعة صباحًا لم يكونا مفاجئين بأي شكل وأنهما فيلمين جيدين، لكنهما بشكل ما عاديان يسهل نسيانهما بعد انتهاء المهرجان. 

إلى جانب ذلك، كنت أفكر في عالمنا وما آل إليه بشكلٍ ما، خاصة وأن حضور المهرجان الألماني الكبير دائمًا ما يجلب أفكارًا سياسية إلى الرأس. شغلني يومها فكرة تلك المقولات التي نسمعها من رؤساء وحكام أكبر دول في العالم، حول حريات يجب إلغاؤها وحدود يجب التضييق عليها لغلق الطريق على المهاجرين، حتى وإن كان هؤلاء الرؤساء قد وصل أجدادهم إلى أراضي تلك البلدان مهاجرين أيضًا. تلك النغمات الشعبوية السلطوية التي قد تروق لأغلبيات غير متعلمة، تتمحور غالبًا حول نفس الشيء: الحل هو في إبعاد الآخر سواء كان ذلك الآخر من دين مختلف أو طائفة مغايرة أو من جنسية أخرى أو حتى جيل عمري مختلف. 

بوصولي إلى القاعة، نسيت أفكاري وركزت على الوصول إلى مقعدي لمشاهدة الفيلم ونسيان البرد والأفكار السياسية على حد سواء. دخلت إلى قاعة المسرح الكبير لمهرجان برلين، دفء سريع يحتل الجسد بعد تلك البرودة سواء من جراء المدافئ أو من روح الحشود الصحفية المتلهفة لاكتشاف قطعة سينمائية جديدة يتمنون أن تكون هي القطعة التي سيتحدثون عنها لأيام وشهور وكيف كانوا أول من شاهدوها. فيلم برازيلي لمخرج أنجز فيلمين روائيين طويليين من قبل، ذو شهرة محدودة، لكن بمجرد أن تقرأ الملخص تنجذب إلى مشاهدة الفيلم:

«تتلقى تيريزا المرأة السبعينية، التي عاشت حياتها في بلدة صناعية صغيرة في الأمازون، أمرًا رسميًا من الحكومة بالانتقال إلى مستعمرة سكنية معزولة لكبار السن، يُرسل إليها المُسنين ليستمتعوا بما تبقى من حياتهم، الأمر الذي يتيح للأجيال الشابة التركيز بالكامل على الإنتاج والنمو. ترفض تيريزا الأمر وتنطلق في رحلة عبر أنهار وفروع الأمازون لتحقيق أمنية أخيرة قبل أن تُسلب حريتها».

تيريزا ترفض مصير التمساح

مشهد من فيلم «المسار الأزرق»

هكذا نجد أنفسنا منذ الملخص أمام عالم عجائبي ديستوبي به قانون ربما يبدو غريبًا الآن لكن لا يصعب تخيله في المستقبل القريب، خاصة مع الدعوات المتكررة لزيادة الإنتاجية والعمل لفترات أطول لتحقيق المستحيل، هنا يصبح الإنسان في ذلك العالم جيدًا بقدر ما يحقق وينتج، وعندما يتوقف عن الإنتاج فإن مآله إلى مستعمرة معزولة. لكن بالطبع الملخصات لا تحكي الأفلام، فالأفلام فن بصري بالأساس يتألف من عناصر مختلفة لا تتوقف عند حكاية أو أخرى. 

يبدأ فيلم المخرج جابرييل ماسكارو في بيئة باردة، ثلاجة لسلخ التماسيح، ذات إضاءة زرقاء وخضراء مميتة، تشعر ببرودتها من المنظر. تسلخ تيريزا هي وزملائها تلك التماسيح للاحتفاظ بجلودها ثم استخدامها في صناعة الجلود، ثم تغير ثيابها، نراها سيدة مسنة لكنها لا زالت تتمتع بالصحة وترغب بالعمل والعيش، كما يبدو من ملامحها وطريقة كلامها أنها شخصية قوية.

تعود تيريزا إلى منزلها لتجد أنهم قد علقوا لها وسامًا كبيرًا على المنزل، تتساءل ما هذا فيقولون لها أن هذا تكريم من الدولة لكونها مواطنة خدمت وطنها لفترة طويلة، لا ترتاح لذلك، فهي تعلم بالتأكيد أن هذه علامة مُمِيزة وليست مُمَيزة وأنها بداية النهاية لحياتها الطبيعية وأن عربة التجاعيد ستأتي إليها لا محالة لتقودها إلى المستعمرة، فتقرر الفرار لتبدأ رحلتها.

 تذهب إلى شركة طيران تحاول حجز تذكرة لركوب طائرة، يسألها الموظف إلى أين فتقول له أي مكان، هي فقط تحلم بركوب طائرة كأمنية أخيرة لسجين يعلم أن سجنه قد اقترب، لكن الموظف يتصل بابنتها إذ يحتاج إلى موافقتها، فترفض وتنتهي آمال السيدة في خوض الرحلة. لا تيأس لتبدأ رحلتها الحقيقية عبر عالم سفلي هو عالم للمهمشين تتعرف فيه على مهرب وامرأة تبيع الإنجيل الإلكتروني رغم أنها ليست مؤمنة وتخبرها تلك السيدة على طريقة للتهرب من سيارة التجاعيد. 

نقطة جانبية مثيرة للاهتمام أنه في الأعمال التي تصور العجزة عادة ما نشعر بالملل إذا ما كانوا مستسلمين بائسين منتظرين للموت كما هو الحال في بعض الأفلام والمسلسلات ولكن هنا فإن تيريزا شخصية خلابة بحق، من لحم ودم، ترغب وتريد وتتصرف وفقًا لذلك، ما يجعلها شخصية درامية ممتازة.

ليس كل أزرق مميت

مشهد آخر من فيلم «المسار الأزرق»

في تلك الرحلة تنتقل تيريزا من البر إلى النهر بشكل كبير، في نوع ما من العودة إلى الحياة والطبيعة بدلًا من تلك الحياة التي قضتها في خدمة مصنع سلخ التماسيح. خلال تلك الرحلة يعتمد ماسكارو على كوميديا آتية من تناقض شخصية تيريزا المنضبطة وهي تندفع لأول مرة في حياتها في رحلة غرائبية، لكن ليس أمامها أي حل آخر. خلال الرحلة، تتبدل الألوان ذاتها المستخدمة في بداية الفيلم تعبيرًا عن حالة من موت وسأم إلى ذات الألوان لكن بدرجات مختلفة تعبر عن معان مضادة.

نرى الأخضر وهو يتحول إلى أخضر داكن خاص بالغابة، فيوحي بالحياة بعد درجاته الباهتة في البداية الخاصة بلون جلد التمساح. كما يتحول الأزرق إلى أزرق حي نابض يدل على استكشاف لحياة فيها ما نتشوق لمعرفته في مقابل حياة لا جديد بها يدل عليها أزرق مثلج يحتل مشهد البداية. أضف إلى ذلك عناصر النيون في الإضاءة والتي تدخلنا في عالم يشبه ذلك الذي يراه متعاطي العقاقير المهلوسة، لنرى الأمور بمنظور تيريزا، فما قد يبدو عاديًا لنا، هو بالنسبة لها أشبه برحلة أليس في مدينة العجائب، رحلة تيريزا التي تُعيد لها الأمل في الحياة، أو حتى يجعلها تختبر أشياء لم تتح لها الفرصة في حياتها الطويلة لاختبارها.

من جانب الأماكن، ربما تشبه رحلة تيريزا صرخة استغاثة ضد ثقافة ربما أنهكت غابات الأمازون، رئة أمريكا اللاتينية، في السنوات الأخيرة بدعوى التقدم والتطور. إنها رحلة عودة إلى الجذور ففي النهر والغابة وما فيهما، ربما لا تحقق تيريزا ما تتمناه بل تجد ما تريده من مغامرة غير محسوبة ومصادقة لأشخاص ربما لا يكونوا ممتازين أو أفضل من يقومون بعملهم لكن تميزهم حريتهم وحبهم لبيئتهم وانغماسهم فيها، فهم مثل تلك الأشجار، لا يودون أبدًا مغادرة أماكنهم حتى وإن كان هناك مكانًا أفضل.

تُذكرنا تيريزا بقصة رجل إيطالي مسن هرب من دور عجزة عام 2012، ليجدوه على الطريق بكرسي متحرك، وعند سؤاله عن لم هرب، قال إنه شعر بالسأم وأنه احتاج بعض التغيير، هكذا هي أماني تيريزا، التي يجب أن ينظر إليها المجتمع المتحضر بتكريم حقيقي وقت تقاعدها ومنحها الاختيار بدلًا من النظر إليها على أنها ترس متهالك في آلة ضخمة.

إجمالًا، فإن «المسار الأزرق» هو فيلم متميز بالتأكيد في مسابقة برلين هذا العام، يُعلق على السياسات الحالية لكن بشكل متجرد وإنساني، يستخدم الديستوبيا للهروب من المباشرة، كما يصل بنا وببطلته لرؤية مفادها أن الحرية هي ربما أغلى ما نملك.

# سينما # فن # مهرجان برلين السينمائي الدولي # السينما العالمية

صورة قابض الأرواح في السينما: كيف تغلب المخرجون على هاجس الموت
كيف يعيد فيلم «Flow» تعريف البقاء في عالم مغمور
الثقافة الرمضانية والوظيفة الفسيولوجية للفن

فن